جزاك الله خير يا أغلى البنات
تفسير قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ }
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186)
التفسير :
{ 186 } قوله تعالى : { وإذا سألك } ؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ والمراد بقوله تعالى : { عبادي }: المؤمنون ؛ وقوله تعالى: { عني } أي عن قربي ، وإجابتي بدليل الجواب : وهو قوله تعالى: { فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }.
قوله تعالى : { فإني قريب }: بعضهم قال : إنه على تقدير «قل» أي إذا سألك عبادي عني فقل: إني قريب ؛ فيكون جواب { إذا } محذوفاً ؛ و{ إني قريب } مقول القول المحذوف ؛
ويحتمل أن يكون الجواب جملة : { فإني قريب } لوضوح المعنى بدون تقدير ؛ والضمير في قوله تعالى : { فإني قريب } يعود إلى الله.
قوله تعالى : { فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }؛ { قريب } خبر «إن» ؛ و{ أجيب } خبر ثان لـ «إن» ؛ فيكون خبرها الأول مفرداً ؛ وخبرها الثاني جملة ؛ و «الدعاء» بمعنى الطلب ؛ و{ الداعِ } أصلها «الداعي» بالياء ، كـ«القاضي» و«الهادي» ؛ لكن حذفت الياء للتخفيف نظيرها قوله تعالى: {الكبير المتعال} ؛ وأصلها: «المتعالي» ؛
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى : { إذا دعان } بعد قوله تعالى : { الداع }
لأنه لا يوصف بأنه داع إلا إذا دعا ؟
فالجواب
أن المراد بقوله تعالى : { إذا دعان } أي إذا صدق في دعائه إياي بأن شعُر بأنه في حاجة إلى الله ، وأن الله قادر على إجابته ، وأخلص الدعاء لله بحيث لا يتعلق قلبه بغيره.
وقوله تعالى : { دعان } أصلها دعاني - بالياء ، فحذفت الياء تخفيفاً.
قوله تعالى : { فليستجيبوا لي } أي فليجيبوا لي ؛
لأن «استجاب» بمعنى أجاب ، كما قال الله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } [آل عمران: 195] أي أجاب ،
وكما قال الله تعالى : { والذين استجابوا لربهم } [الشورى: 38
وقوله تعالى : { فليستجيبوا } عدَّاها باللام ؛
لأنه ضمن معنى الانقياد - أي فلينقادوا لي ؛ وإلا لكانت «أجاب» تتعدى بنفسها ؛ نظيرها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: " فإن هم أجابوا لك بذلك (147) ؛ فضَمَّن الإجابة معنى الانقياد.
قوله تعالى : { وليؤمنوا بي } أي وليؤمنوا بأني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ؛ واللام في الفعلين : { فليستجيبوا } ؛ و { ليؤمنوا } لام الأمر ؛ ولهذا سكنت بعد حرف العطف.
قوله تعالى : { لعلهم يرشدون }؛ «لعل» للتعليل ؛ وكلما جاءت «لعل» في كتاب الله فإنها للتعليل ؛ إذ إن الترجي لا يكون إلا فيمن احتاج، ويؤمل كشف ما نزل به عن قرب ؛ أما الرب عز وجل فإنه يستحيل في حقه هذا .
و «الرشد» يطلق على معانٍ؛ منها : حُسن التصرف ، كما في قوله تعالى :
{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [النساء: 6] ؛ ولا شك أن من آمن بالله، واستجاب له فإنه أحسن الناس تصرفاً ،
ويوفّق ، ويُهدى ، وتُيسر له الأمور ، كما قال تعالى :
{ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } [الطلاق: 4] ،
وقال تعالى : { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى } [الليل: 5 ــــ 7] .
الفوائد :
1 ــــ من فوائد الآية : أن الصيام مظنة إجابة الدعاء ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية في أثناء آيات الصيام ؛ ولا سيما أنه ذكرها في آخر الكلام على آيات الصيام .
وقال بعض أهل العلم : يستفاد منها فائدة أخرى : أنه ينبغي الدعاء في آخر يوم الصيام ــــ أي عند الإفطار.
2 ــــ ومنها : رأفة الله عز وجل ؛ لقوله تعالى : { وإذا سألك عبادي } ، حيث أضافهم إلى نفسه تشريفاً ، وتعطفاً عليهم .
3 ــــ ومنها : إثبات قرب الله سبحانه وتعالى ؛ والمراد قرب نفسه ؛ لأن الضمائر في هذه الآية كلها ترجع إلى الله ؛ وعليه فلا يصح أن يحمل القرب فيها على قرب رحمته ،
أو ملائكته ؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ ، ويقتضي تشتيت الضمائر بدون دليل ؛
ثم قرب الله عز وجل هل هو خاص بمن يعبده ،
أو يدعوه ؛ أو هو عام ؟ على قولين ؛
والراجح أنه خاص بمن يعبده ، أو يدعوه ؛ لأنه لم يَرد وصف الله به على وجه مطلق ؛
وليس كالمعية التي تنقسم إلى عامة ، وخاصة .
فإن قال قائل : ما الجواب عن قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ق~: 16، 17] ــــ وهذا عام ؟
فالجواب أن المراد بالقرب في هذا الآية قرب ملائكته بدليل قوله تعالى :
{ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ق : 17] ، ومثلها قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون } [الواقعة : 83 ــــ 85] : فإن المراد بها قرب الملائكة الذين يقبضون الروح .
فإن قال قائل : كيف الجمع بين قربه جل وعلا وعلوه ؟
فالجواب :
أن الله أثبت ذلك لنفسه ــــ أعني القرب ، والعلو ؛ ولا يمكن أن يجمع الله لنفسه بين صفتين متناقضتين ؛ ولأن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته ؛ فهو قريب في علوه عليٌّ في دنوه .
4 - ومن فوائد الآية : إثبات سمع الله؛ لقوله تعالى : { أجيب } ؛ لأنه لا يجاب إلا بعد أن يُسمعَ ما دعا به .
5 - ومنها : إثبات قدرة الله؛ لأن إجابة الداعي تحتاج إلى قدرة .
6 - ومنها : إثبات كرم الله؛ لقوله تعالى : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } .
7 - ومنها : أن من شرط إجابة الدعاء أن يكون الداعي صادق الدعوة في دعوة الله عز وجل ، بحيث يكون مخلصاً مشعراً نفسه بالافتقار إلى ربه ، ومشعراً نفسه بكرم الله، وجوده؛ لقوله تعالى : { إذا دعان } .
8 - ومنها : أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه ؛
ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته ؛ لأنه تعالى قد يؤخر إجابة المسألة ليزداد الداعي تضرعاً إلى الله ، وإلحاحاً في الدعاء؛ فيقوى بذلك إيمانه، ويزداد ثوابه ؛ أو يدخره له يوم القيامة ؛
أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي؛ وهذا هو السر - والله أعلم - في قوله تعالى: { أجيب دعوة الداع }.
9 - ومنها : أن الإنابة إلى الله عز وجل، والقيام بطاعته سبب للرشد؛ لقوله تعالى : { فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }.
10- ومنها : أن الاستجابة لا بد أن يصحبها إيمان؛ لأن الله قرن بينهما؛ فمن تعبد لله سبحانه وتعالى وهو ضعيف الإيمان بأن يكون عنده تردد - والعياذ بالله - أو شك فإنه لا ينفعه؛ أو يكون عنده إنكار ،
كما يفعل المنافقون : فإنهم يتعبدون إلى الله عز وجل ظاهراً ؛ لكنهم ليس عندهم إيمان ؛ فلا ينفعهم .
11 ــــ ومنها : إثبات الأسباب ، والعلل ؛ ففيه رد على الجهمية ، وعلى الأشاعرة ؛ لأنهم لا يثبتون الأسباب إلا إثباتاً صورياً ، حيث يقولون : إن الأسباب لا تؤثر بنفسها لكن يكون الفعل عندها .
تفسير سورة البقرة - المجلد الثاني
للشيخ محمد بن العثيمين رحمه الله